سورة الأنفال - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)}
اعلم أن قوله: {إِذْ} منصوب بإضمار اذكر أنها لكم بدل من إحدى الطائفتين.
قال الفراء والزجاج: ومثله قوله تعالى: {هَلُ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [الزخرف: 66] {وَأَنْ} في موضع نصب كما نصب الساعة، وقوله أيضاً: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن} [الفتح: 25] {أن} في موضع رفع بلولاً. والطائفتان: العير والنفير: وغير ذات الشوكة. العير. لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارساً والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدتهم. والشوكة الحدة مستعارة من واحدة الشوك، ويقال شوك القنا لسنانها، ومنه قولهم شاكي السلاح. أي تتمنون أن يكون لكم العير لأنها الطائفة التي لا حدة لها ولا شدة، ولا تريدون الطائفة الأخرى ولكن الله أراد التوجه إلى الطائفة الأخرى ليحق الحق بكلماته، وفيه سؤالات:
السؤال الأول: أليس أن قوله: {يُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بكلماته} ثم قوله بعد ذلك: {لِيُحِقَّ الحق} تكرير محض؟
والجواب: ليس هاهنا تكرير لأن المراد بالأول سبب ما وعد به في هذه الواقعة من النصر والظفر بالأعداء، والمراد بالثاني تقوية القرآن والدين ونصرة هذه الشريعة، لأن الذي وقع من المؤمنين يوم بدر بالكافرين كان سبباً لعزة الدين وقوته، ولهذا السبب قرنه بقوله: {وَيُبْطِلَ الباطل} الذي هو الشرك، ولك في مقابلة {الحق} الذي هو الدين والإيمان.
السؤال الثاني: الحق حق لذاته، والباطل باطل لذاته، وما ثبت للشيء لذاته فإنه يمتنع تحصيله بجعل جاعل وفعل فاعل فما المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل؟
والجواب: المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل، بإظهار كون ذلك الحق حقاً، وإظهار كون ذلك الباطل باطلاً، وذلك تارة يكون بإظهار الدلائل والبينات، وتارة بتقوية رؤساء الحق وقهر رؤوساء الباطل.
واعلم أن أصحابنا تمسكوا في مسألة خلق الأفعال بقوله تعالى: {لِيُحِقَّ الحق} قالوا وجب حمله على أنه يوجد الحق ويكونه، والحق ليس إلا الدين والاعتقاد، فدل هذا على أن الاعتقاد الحق لا يحصل إلا بتكوين الله تعالى.
قالوا: ولا يمكن حمل تحقيق الحق على إظهار آثاره لأن ذلك الظهور حصل بفعل العباد، فامتنع أيضاً إضافة ذلك الإظهار إلى الله تعالى، ولا يمكن أن يقال المراد من إظهاره وضع الدلائل عليها، لأن هذا المعنى حاصل بالنسبة إلى الكافر وإلى المسلم. وقبل هذه الواقعة، وبعدها فلا يحصل لتخصيص هذه الواقعة بهذا المعنى فائدة أصلاً.
واعلم أن المعتزلة أيضاً تمسكوا بعين هذه الآية على صحة مذهبهم. فقالوا هذه الآية تدل على أنه لا يريد تحقيق الباطل وإبطال الحق البتة، بل إنه تعالى أبداً يريد تحقيق الحق وإبطال الباطل، وذلك يبطل قول من يقول إنه لا باطل ولا كفر إلا والله تعالى مريد له.
وأجاب أصحابنا بأنه ثبت في أصول الفقه أن المفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق فهذه الآية دلت على أنه تعالى أراد تحقيق الحق وإبطال الباطل في هذه الصورة، فلم قلتم إن الأمر كذلك في جميع الصور؟ بل قد بينا بالدليل أن هذه الآية تدل على صحة قولنا.


أما قوله: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} فالدابر الآخر فاعل من دبر إذا أدبر، ومنه دابرة الطائر وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال، والمراد أنكم تريدون العير للفوز بالمال، والله تعالى يريد أن تتوجهوا إلى النفير، لما فيه من إعلاء الدين الحق واستئصال الكافرين.


{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)}
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه يحق الحق ويبطل الباطل، بين أنه تعالى نصرهم عند الاستغاثة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يجوز أن يكون العامل في {إِذْ} هو قوله: {وَيُبْطِلَ الباطل} فتكون الآية متصلة بما قبلها، ويجوز أن تكون الآية مستأنفة على تقدير واذكروا إذ تستغيثون.
المسألة الثانية: في قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} قولان:
القول الأول: أن هذه الاستغاثة كانت من الرسول عليه السلام.
قال ابن عباس: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلثمائة ونيف، استقبل القبلة ومد يده وهو يقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ورده أبو بكر ثم التزمه ثم قال: كفاك يا نبي الله مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فنزلت هذه الآية ولما اصطفت القوم قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره ورفع رسول الله يده بالدعاء المذكور.
القول الثاني: أن هذه الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين لأن الوجه الذي لأجله أقدم الرسول على الاستغاثة كان حاصلاً فيهم، بل خوفهم كان أشد من خوف الرسول، فالأقرب أنه دعا عليه السلام وتضرع على ما روي، والقوم كانوا يؤمنون على دعائه تابعين له في الدعاء في أنفسهم فنقل دعاء رسول الله لأنه رفع بذلك الدعاء صوته، ولم ينقل دعاء القوم، فهذا هو طريق الجمع بين الروايات المختلفة في هذا الباب.
المسألة الثالثة: قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} أي تطلبون الإغاثة يقول الواقع في بلية أغثني أي فرج عني.
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم الاستغاثة بين أنه تعالى إجابهم. وقال: {أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الملئكة مُرْدِفِينَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {أَنّي مُمِدُّكُمْ} أصله بأني ممدكم، فحذف الجار وسلط عليه استجاب، فنصب محله، وعن أبي عمرو: أنه قرأ {أَنّي مُمِدُّكُمْ} بالكسر على إرادة القول أو على إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من القول.
المسألة الثانية: قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم {مُرْدِفِينَ} بفتح الدال والباقون بكسرها.
قال الفراء: {مُرْدِفِينَ} أي متتابعين يأتي بعضهم في أثر بعض كالقوم الذين أردفوا على الدواب و{مُرْدِفِينَ} أي فعل بهم ذلك، ومعناه أنه تعالى أردف المسلمين وأيدهم بهم.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أن الملائكة هل قاتلوا يوم بدر؟ فقال قوم نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة، وفيها علي بن أبي طالب في صورة الرجال عليهم ثيابهم بيض وقاتلوا. وقيل قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ويوم حنين، وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود: من أين كان الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصاً قال هو من الملائكة فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم، وروى أن رجلاً من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالصوت فوقه فنظر إلى المشرك وقد خر مستلقياً وقد شق وجهه فحدث الأنصاري رسول الله فقال صدقت. ذاك من مدد السماء، وقال آخرون: لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك الدنيا كلها فإن جبريل أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط وأهلك بلاد ثمود وقوم صالح بصيحة واحدة، والكلام في كيفية هذا الإمداد مذكور في سورة آل عمران بالاستقصاء والذي يدل على صحة أن الملائكة ما نزلوا للقتال قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى} قال الفراء: الضمير عائد إلى الأرداف والتقدير: ما جعل الله الأرداف إلا بشرى.
وقال الزجاج: ما جعل الله المردفين إلا بشرى، وهذا أولى لأن الأمداد بالملائكة حصل بالبشرى.
قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر في العريش قاعداً يدعو، وكان أبو بكر قاعداً عن يمينه ليس معه غيره، فخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه نعساً، ثم ضرب بيمينه على فخذ أبي بكر وقال: «أبشر بنصر الله ولقد رأيت في منامي جبريل يقدم الخيل».
وهذا يدل على أنه لا غرض من إنزالهم إلا حصول هذه البشرى، وذلك ينفي إقدامهم على القتال.
ثم قال تعالى: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} والمقصود التنبيه على أن الملائكة وإن كانوا قد نزلوا في موافقة المؤمنين، إلا أن الواجب على المؤمن أن لا يعتمد على ذلك بل يجب أن يكون اعتماده على إغاثة الله ونصره وهدايته وكفايته لأجل أن الله هو العزيز الغالب الذي لا يغلب، والقاهر الذي لا يقهر، والحكيم فيما ينزل من النصرة فيضعها في موضعها.


{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الزجاج: {إِذْ} موضعها نصب على معنى {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى} [آل عمران: 126] في ذلك الوقت. ويجوز أيضاً أن يكون التقدير: اذكروا إذ يغشيكم النعاس أمنة.
المسألة الثانية: في {يغشاكم} ثلاث قراآت: الأولى: قرأ نافع بضم الياء، وسكون الغين، وتخفيف الشين {يُغَشّيكُمُ النعاس} بالنصب.
الثانية: {يغشاكم} بالألف وفتح الياء وسكون العين {يُغَشّيكُمُ النعاس} بالرفع وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير.
الثالثة: قرأ الباقون {يُغَشّيكُمُ} بتشديد الشين وضم الياء من التغشية {النعاس} بالنصب، أي يلبسكم النوم.
قال الواحدي: القراءة الأولى من أغشى، والثانية من غشي، والثالثة من غشي فمن قرأ {يغشاكم} فحجته قوله: {الغم أَمَنَةً نُّعَاساً} يعني: فكما أسند الفعل هناك إلى النعاس والأمنة التي هي سبب النعاس كذلك في هذه الآية ومن قرأ {يُغَشّيكُمُ} أو {يُغَشّيكُمُ} فالمعنى واحد وقد جاء التنزيل بهما في قوله تعالى: {فأغشيناهم فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [ياس: 9] وقال: {فغشاها مَا غشى} [النجم: 54] وقال: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ} [يونس: 27] وعلى هذا فالفعل مسند إلى الله.
المسألة الثالثة: أنه تعالى لما ذكر أنه استجاب دعاءهم ووعدهم بالنصر فقال: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} ذكر عقيبه وجوه النصر وهي ستة أنواع: الأول: قوله: {إِذ يُغَشّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مّنْهُ} أي من قبل الله، واعلم أن كل نوم ونعاس فإنه لا يحصل إلا من قبل الله تعالى فتخصيص هذا النعاس بأنه من الله تعالى لابد فيه من مزيد فائدة وذكروا فيه وجوهاً: أحدها: أن الخائف إذا خاف من عدوه الخوف الشديد على نفسه وأهله فإنه لا يؤخذه النوم، وإذا نام الخائفون أمنوا، فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن.
وثانيها: أنهم خافوا من جهات كثيرة.
أحدها: قلة المسلمين وكثرة الكفار.
وثانيها: الأهبة والآلة والعدة للكافرين وقلتها للمؤمنين.
وثالثها: العطش الشديد فلولا حصول هذا النعاس وحصول الاستراحة حتى تمكنوا في اليوم الثاني من القتال لما تم الظفر.
والوجه الثالث: في بيان كون ذلك النعاس نعمة في حقهم، أنهم ما ناموا نوماً غرقاً يتمكن العدو من معاقصتهم بل كان ذلك نعاساً يحصل لهم زوال الأعياء والكلال مع أنهم كانوا بحيث لو قصدهم العدو لعرفوا وصوله ولقدروا على دفعه.
والوجه الرابع: أنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم، وحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة. فلهذا السبب قيل: إن ذلك النعاس كان في حكم المعجز.
فإن قيل: فإن كان الأمر كما ذكرتم فلو خافوا بعد ذلك النعاس؟
قلنا: لأن المعلوم أن الله تعالى يجعل جند الإسلام مظفراً منصوراً وذلك لا يمنع من صيرورة قوم منهم مقتولين.
فإن قيل: إذا قرئ {يُغَشّيكُمُ} بالتخفيف والتشديد ونصب {النعاس} فالمضير لله عز وجل {وأمنة} مفعول له.
أما إذا قرئ {يُغَشّيكُمُ النعاس} فكيف يمكن جعل قوله: {ءامِنَةً} مفعولاً له، مع أن المفعول له يجب أن يكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل؟
قلنا: قوله: {يغشاكم} وإن كان في الظاهر مسنداً إلى النعاس، إلا أنه في الحقيقة مسند إلى الله تعالى، فصح هذا التعليل نظراً إلى المعنى.
قال صاحب الكشاف: وقرئ {كَانَتْ ءامِنَةً} بسكون الميم، ونظير أمن أمنة، حي حياة، ونظير أمن أمنة، رحم رحمة.
قال ابن عباس: النعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصلاة وسوسة من الشيطان.
النوع الثاني: من أنواع نعم الله تعالى المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى: {وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} ولا شبهة أن المراد منه المطر، وفي الخبر أن القوم سبقوا إلى موضع الماء، واستولوا عليه، وطمعوا لهذا السبب أن تكون لهم الغلبة، وعطش المؤمنون وخافوا، وأعوزهم الماء للشرب والطهارة، وأكثرهم احتلموا وأجنبوا، وانضاف إلى ذلك أن ذلك الموضع كان رملاً تغوص فيه الأرجل ويرتفع منه الغبار الكثير، وكان الخوف حاصلاً في قلوبهم، بسبب كثرة العدو وسبب كثرة آلاتهم وأدواتهم، فلما أنزل الله تعالى ذلك المطر صار ذلك دليلاً على حصول النصرة والظفر، وعظمت النعمة به من جهات: أحدها: زوال العطش، فقد روي أنهم حفروا موضعاً في الرمل، فصار كالحوض الكبير، واجتمع فيه الماء حتى شربوا منه وتطهروا وتزودوا.
وثانيها: أنهم اغتسلوا من ذلك الماء، وزالت الجنابة عنهم، وقد علم بالعادة أن المؤمن يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنباً، ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب فلا جرم عد تعالى وتقدس تمكينهم من الطهارة من جملة نعمه.
وثالثها: أنهم لما عطشوا ولم يجدوا الماء ثم ناموا واحتلموا تضاعفت حاجتهم إلى الماء ثم إن المطر نزل فزالت عنهم تلك البلية والمحنة وحصل المقصود. وفي هذه الحالة ما قد يستدل به على زوال العسر وحصول اليسر والمسرة.
أما قوله: {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} ففيه وجوه:
الأول: أن المراد منه الاحتلام لأن ذلك من وساوس الشيطان.
الثاني: أن الكفار لما نزلوا على الماء، وسوس الشيطان إليهم وخوفهم من الهلاك، فلما نزل المطر زالت تلك الوسوسة، روى أنهم لما ناموا واحتلم أكثرهم، تمثل لهم إبليس وقال أنتم تزعمون أنكم على الحق وأنتم تصلون على الجنابة، وقد عطشتم ولو كنتم على الحق لما غلبوكم على الماء فأنزل الله تعالى المطر حتى جرى الوادي واتخذ المسلمون حياضاً واغتسلوا وتلبد الرمل حتى ثبتت عليه الأقدام.
الثالث: أن المراد من رجز الشيطان سائر ما يدعو الشيطان إليه من معصية وفساد.
فإن قيل: فأي هذه الوجوه الثلاثة أولى؟
قلنا: قوله: {لّيُطَهّرَكُمْ} معناه ليزيل الجنابة عنكم، فلو حملنا قوله: {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} على الجنابة لزم منه التكرير وأنه خلاف الأصل، ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد من قوله: {لّيُطَهّرَكُمْ} حصول الطهارة الشرعية. والمراد من قوله: {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} إزالة جوهر المني عن أعضائهم فإنه شيء مستخبث، ثم تقول: حمله على إزالة أثر الاحتلام أولى من حمله على إزالة الوسوسة وذلك لأن تأثير الماء في إزالة العين عن العضو تأثير حقيقي أما تأثيره في إزالة الوسوسة عن القلب فتأثير مجازي وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز، واعلم أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه لزم القطع بأن المني رجز الشيطان، وذلك يوجب الحكم بكونه نجساً مطلقاً لقوله تعالى: {والرجز فاهجر} [المدثر: 5].
النوع الثالث: من النعم المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: {وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ} والمراد أن بسبب نزول هذا المطر قويت قلوبهم وزال الخوف والفزع عنهم، ومعنى الربط في اللغة الشد، وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى: {وَرَابِطُواْ} [آل عمران: 200] ويقال لكل من صبر على أمر، ربط قلبه عليه كأنه حبس قلبه عن أن يضطرب يقال: رجل رابط أي حابس.
قال الواحدي: ويشبه أن يكون {على} هاهنا صلة والمعنى وليربط قلوبكم بالنصر وما وقع من تفسيره يشبه أن لا يكون صلة لأن كلمة {على} تفيد الاستعلاء. فالمعنى أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفع فوقها.
والنوع الرابع: من النعم المذكورة هاهنا قوله تعالى: {وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام} وذكروا فيه وجوهاً: أحدها: أن ذلك المطر لبد ذلك الرمل وصيره بحيث لا تغوص أرجلهم فيه، فقدروا على المشي عليه كيف أرادوا، ولولا هذا المطر لما قدروا عليه، وعلى هذا التقدير، فالضمير في قوله: {بِهِ} عائد إلى المطر.
وثانيها: أن المراد أن ربط قلوبهم أوجب ثبات أقدامهم، لأن من كان قلبه ضعيفاً فر ولم يقف، فلما قوى الله تعالى قلوبهم لا جرم ثبت أقدامهم، وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله: {بِهِ} عائد إلى الربط.
وثالثها: روى أنه لما نزل المطر حصل للكافرين ضد ما حصل للمؤمنين، وذلك لأن الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التراب والوحل، فلما نزل المطر عظم الوحل، فصار ذلك مانعاً لهم من المشي كيفما أرادوا فقوله: {وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام} يدل دلالة المفهوم على أن حال الأعداء كانت بخلاف ذلك.
النوع الخامس: من النعم المذكورة هاهنا قوله: {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملئكة أَنّي مَعَكُمْ} وفيه بحثان: الأول: قال الزجاج: {إِذْ} في موضع نصب، والتقدير: وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام حال ما يوحي إلى الملائكة بكذا وكذا، ويجوز أيضاً أن يكون على تقدير اذكروا.
الثاني: قوله: {إِنّى مَعَكُمْ} فيه وجهان:
الأول: أن يكون المراد أنه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي مع الملائكة حال ما أرسلهم ردأً للمسلمين.
والثاني: أن يكون المراد أنه تعالى أوحى إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم وثبتوهم، وهذا الثاني أولى لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف والملائكة ما كانوا يخافون الكفار، وإنما الخائف هم المسلمون.
ثم قال: {فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ} واختلفوا في كيفية هذا التثبيت على وجوه:
الأول: أنهم عرفوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله ناصر المؤمنين والرسول عرف المؤمنين ذلك، فهذا هو التثبيت والثاني: أن الشيطان كما يمكنه إلقاء الوسوسة إلى الإنسان، فكذلك الملك يمكنه إلقاء الإلهام إليه فهذا هو التثبيت في هذا الباب.
والثالث: أن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارفهم وكانوا يمدونهم بالنصر والفتح والظفر.
والنوع السادس: من النعم المذكورة في هذه الآية قوله: {سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} وهذا من النعم الجليلة، وذلك لأن أمر النفس هو القلب فلما بين الله تعالى أنه ربط قلوب المؤمنين بمعنى أنه قواها وأزال الخوف عنها ذكر أنه ألقى الرعب والخوف في قلوب الكافرين فكان ذلك من أعظم نعم الله تعالى على المؤمنين.
أما قوله تعالى: {فاضربوا فَوْقَ الاعناق} ففيه وجهان:
الأول: أنه أمر للملائكة متصل بقوله تعالى: {فَثَبّتُواْ} وقيل: بل أمر للمؤمنين وهذا هو الأصح لما بينا أنه تعالى ما أنزل الملائكة لأجل المقاتلة والمحاربة، واعلم أنه تعالى لما بين أنه حصل في حق المسلمين جميع موجبات النصر والظفر، فعند هذا أمرهم بمحاربتهم، وفي قوله: {فاضربوا فَوْقَ الاعناق} قولان: الأول: أن ما فوق العنق هو الرأس، فكان هذا أمراً بإزالة الرأس عن الجسد.
والثاني: أن قوله: {فاضربوا فَوْقَ الاعناق} أي فاضربوا الأعناق.
ثم قال: {واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} يعني الأطراف من اليدين والرجلين، ثم اختلفوا فمنهم من قال المراد أن يضربوهم كما شاؤوا، لأن ما فوق العنق هو الرأس، وهو أشرف الأعضاء، والبنان عبارة عن أضعف الأعضاء، فذكر الأشرف والأخس تنبيهاً على كل الأعضاء، ومنهم من قال: بل المراد إما القتل، وهو ضرب ما فوق الأعناق أو قطع البنان، لأن الأصابع هي الآلات في أخذ السيوف والرماح وسائر الأسلحة، فإذا قطع بنانهم عجزوا عن المحاربة.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الوجوه الكثيرة من النعم على المسلمين. قال: {ذلك بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} والمعنى: أنه تعالى ألقاهم في الخزي والنكال من هذه الوجوه الكثيرة بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله.
قال الزجاج: {شَاقُّواْ} جانبوا، وصاروا في شق غير شق المؤمنين، والشق الجانب {وَشَاقُّواْ الله} مجاز، والمعنى: شاقوا أولياء الله، ودين الله.
ثم قال: {وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} يعني أن هذا الذي نزل بهم في ذلك اليوم شيء قليل مما أعده الله لهم من العقاب في القيامة، والمقصود منه الزجر عن الكفر والتهديد عليه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8